فصل: ذكر استيلاء ينال على الري وأخذها منه ووصوله إلى بغداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن:

في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة كربوقا، عند مدينة خوي، وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما ذكرناه، فاستولى على أكثرها، وأتى إلى خوي، فمرض بها ثلاثة عشر يوماً، وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين، وسنقرجه، فوصى إلى سنقرجه، وأمر الأتراك بطاعته، وأخذ له على عسكره العهد، ومات على أربعة فراسخ من خوي، ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي.
وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل، فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام، وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني، وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها، وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد، فسار مجداً، فسمع سنقرجه بوصوله، فظن أنه جاء إليه خدمة له، فخرج ليستقبله في أهل البلد، فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه، واعتنقا، وبكيا على قوام الدولة، فتسايرا.
فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه: أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة، والمنصب، والأموال، والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى: من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت؟ الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد، ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات، فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحاً على رأسه فجرحه، فألقى موسى نفسه إلى الأرض، وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض، وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر، فجذب سكيناً وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه، ودخل موسى البلد، وخلع على أصحاب سنقرجه، وطيب نفوسهم فصارت الولاية له.
ولما سمع شمس الدولة جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، الخبر قصد نصيبين وتسلمها، وسار موسى قاصداً إلى الجزيرة، فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره، وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وقصده جكرمش، وحصره مدة طويلة، فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق، وهو يومئذ بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار، فسار سقمان إليه، فرحل جكرمش عنه.
وخرج موسى لاستقبال سقمان، فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا، وثب عليه عدة من الغلمان القوامية، فقتلوه: رماه أحدهم بنشابة فقتله، فعاد أصحابه منهزمين، ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى، ورجع الأمير سقمان إلى الحصن، فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا، سنة عشرين وستمائة، وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق.
وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياماً، ثم تسلمها صلحاً، وأحسن السيرة فيها، وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى، فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور، وملك العرب والأكراد، فأطاعوه.

.ذكر حال صنجيل الفرنجي وما كان منه في حصار طرابلس:

كان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم، والظفر الذي لم يحسبه.
ومضى صنجيل مهزوماً في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، فإلى الملك دقاق بن تتش، يقول: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسير دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافوا صنجيل هناك، فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين.
فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق.
وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل من بها أشد قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها، وفتحها، وقتل من بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنصر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.

.ذكر ما فعله الفرنج:

في هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، وكان قد أسره، وقد تقدم ذكر ذلك، وأخذ مائة ألف دينار، وشرط عليه إطلاق ابنه باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وكانت في أسره.
ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية، فقويت نفوس أهلها به، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطني بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله، فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد، ونازلها، وحصر أهلها، وملك أعمالها.
ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة، وضيق عليها، وكاد يأخذها، ونصب عليها المنجنيقات والأبراج، وكان له في البحر ست عشرة قطعة، فاجتمع المسلمون من سائر السواحل، وأتوا إلى منجنيقاتهم، وأبراجهم، فأحرقوها، وأحرقوا سفنهم أيضاً، وكان ذلك نصراً عجيباً أذل الله به الكفار.
وفيها صار القمص الفرنجي، صاحب الرها، إلى بيروت من ساحل الشام، وحصرها وضايقها، وأطال المقام عليها، فلم ير فيها طمعاً فرحل عنها.
وفيها، في رجب، خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية، فسمع بهم بردويل، صاحب القدس، فسار إليهم في سبعمائة فارس، وقاتلهم، فنصر الله المسلمين، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، وانهزم بردويل، فاختفى في أجمة قصب، فأحرقت تلك الأجمة، ولحقت النار بعض جسده، ونجا منها إلى الرملة، فتبعه المسلمون، وأحاطوا به فتنكر، وخرج منها إلى يافا، وكثر القتل والأسر في أصحابه.

.ذكر عود قلعة خفتيذكان إلى سرخاب بن بدر:

في هذه السنة عادت قلعة خفتيذكان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل.
وكان سبب أخذها منه أن القرابلي، وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر، كان قد أتى إلى بلد سرخاب، فمنعه من المراعي، وقتل جماعة من أصحابه، فمضى قرابلي إلى التركمان، واستجاش بهم، وجاء في عسكر كثير، فلقيه سرخاب وقاتله، فقتل قرابلي من أصحابه الأكراد قريباً من ألفي رجل، وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلاً.
فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذكان ذلك، وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها، وكان بها ذخائره، وأمواله، وقدرها يزيد على ألفي دينار، فتملكاها، واجتاز بها السلطان بركيارق، فأنفذا إليه مائتي ألف دينار، واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر، سوى دقوقا وشهرزور، فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر، وأرسل إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة، فأمنه على نفسه، وعلى ما حصل بيده من أموالها، فسلمها إليه ووفى له.

.ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقند:

قد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها، ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر، صاحب سمرقند، في خراسان لبعده عنها، وجمع عساكر تملأ الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار، وقصد بلاد سنجر.
وكان أمير من أمراء سنجر، اسمه كندغدي، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه مرض سنجر، بعد عوده إلى بلاده، وأنه قد أشفى على الهلاك، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر، وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع، وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق. فبادر قدرخان وأقدم، وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر، وكان قد عوفي، فبادر وسار نحوه قاصداً قتاله ومنعه عن البلاد، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام، فهرب كندغدي إلى قدرخان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة، وسار من عنده إلى ترمذ، فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته.
ثم تقدم قدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة، فلم يصغ إلى قوله، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج متصيداً في ثلاثمائة فارس، فندب سنجر، عند ذلك، الأمير بزغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وهو على تلك الحال، فقاتله، فلم يصبر من مع قدرخان، فانهزموا، وأسر كندغدي وقدرخان، وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا، أو لم تخدمنا، فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به فقتل.
فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه، ونزل في قناة، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة، والتقى هو وقدرخان، وجرى بينهما مصاف، وقتال عظيم، أكثر فيه القتل فيهم، فانهزم قدرخان وعسكره، وحمل أسيراً إلى سنجر، فقتله، وحصر ترمذ، وبها كندغدي، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، ونزل إليه، وسلم ترمذ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة، وحل عنده المحل الكبير.
واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان، وهي جبال منيعة، على أربعين فرسخاً من غزنة، وقد عصى عليه قوم، وتحصنوا بمعاقلها، ووعور مسالكها، فقاتلهم عسكر علاء الدولة، فلم يظفروا منهم بطائل، فتقدم كندغدي منفرداً عنهم، فأبلى بلاء حسناً، ونصر عليهم، وأخذ غنائمهم، وحملها إلى علاء الدولة، فلم يقبل منها شيئاً، ووفرها عليه، فغضب العسكر، وحسدوه على ذلك، وعلى قربه من صاحبهم، ونفاقه عليه، فأشاروا بقبضه، وقالوا: إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه. فقال: قد تحققت قصدكم، ولكن بمن أقبض عليه؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه، فينالكم منه ما تفتضحون به. فقالوا: الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها. فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه، فسار إليهما.
فلما قاربهما عرف ما يراد منه، فأحرق جميع ماله، ونحر جماله، وسار جريدة، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها، فإنه ندم على قصد تلك الجهة، فلما سار سأل راعياً عن الطريق التي يريدها، فدله، فأخذه معه خوفاً أن يكون قد غره، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قريب هراة، فمات هناك، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه، وسجنه بتكريت، وقد تقدم ذكر حادثته.

.ذكر ملك محمد خان سمرقند:

في هذه السنة أحضر السلطان سنجر محمداً أرسلان خان بن سليمان بن داود بلراخان، من مرو، وملكه سمرقند، بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، فدفع عسكر ملك آبائه، فقصد مرو، وأقام بها إلى الآن.
فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله، وسير معه العساكر الكثيرة، فعبروا النهر، فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها، وعظم شأنه، وكثرت جموعه، إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك، وزاحمه في الملك، فطمع فيه، فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر سنجر، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر، وحقن الدماء، وصار بابه مقصداً، وجنابه ملجأ.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية، مستجيراً بسيف الدولة صدقة.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً، واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره، فلما قتل الوزير الأعز، على ما ذكرنا، عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد، وعاد خاله إلى منصبه.
وفي ربيع الأول أيضاً ورد العميد المهذب أبو المجد، أخو الوزير الأعز، إلى بغداد، نائباً عن أخيه، ظناً منه أن إيلغازي لا يخالفهم، حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا، كما ذكرناه، فقبض عليه إيلغازي، ولم يتغير عن طاعة محمد.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان، وكان قد استولى على الموصل، فخدعه من كان بها، حتى سار عنها إلى بغداد، فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق، ولقب عضد الدين.
وفيها، في صفر، قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى، وكان ورعاً، فقيهاً، حنفياً، من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني، وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل، فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم، فقتله أحدهم، فندم الباقون على قتله، وقد فات الأمر.
وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين، وسكنها، وإنما كان يسكن هو وآباؤه قبله في البيوت العربية.
وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل، قتله بنو نمير عند هيت قصاصاً.
وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير، الفقيه الشافعي، انتقل إلى مكة، فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه، ويسمع الحديث، ويشتغل بالعبادة.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان، وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية، وقد جاوز تسعين سنة، وهو من أصحاب أبي إسحاق.
وفيها توفي الأمير منظور بن عمارة الحسيني، أمير المدينة، على ساكنها السلام، وقام ولده مقامه، وهو من ولد المهنا، وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس، رضي الله عنهما، وكان من أهل قم، فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه، وكان قد هرب منه إلى مكة، فأرسل إليه بأمانه. ثم دخلت:

.سنة ست وتسعين وأربعمائة:

.ذكر استيلاء ينال على الري وأخذها منه ووصوله إلى بغداد:

كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من أصبهان، على ما ذكرناه، ومعه ينال بن أنوشتكين الحسامي، استأذنه في قصد الري وإقامة الخطبة له بها، فأذن له، فسار هو وأخوه علي بن أنوشتكين، فوصلا إليها في صفر، فأطاع من بها من نواب بركيارق، وخطب لمحمد بالري، واستولى ينال على البلد، وعسف أهله، وصادرهم بمائتي ألف دينار، وأقام بها إلى النصف من ربيع الأول، فورد إليه الأمير برسق بن برسق من عند السلطان بركيارق، فوقع القتال بينهم على باب الري، فانهزم ينال وأخوه علي.
فأما علي فعاد إلى ولايته قزوين، وسلك ينال الجبال، فقتل من أصحابه كثير، وتشتتوا، فأتى إلى بغداد في سبعمائة رجل، فأكرمه الخليفة، واجتمع هو وإيلغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، وتحالفوا على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة، فحلف لهم أيضاً على ذلك، وعادوا.

.ذكر ما فعله ينال بالعراق:

قد ذكرنا وصول ينال بن أنوشتكين إلى بغداد قبل. فلما استقر ببغداد ظلم الناس بالبلاد جميعاً، وصادرهم، واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل والتقسيط، وصادر العمال.
فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني ينهاه عن ذلك، ويقبح عنده ما يرتكبه من الظلم والعدوان، وتردد أيضاً إلى إيلغازي، وكان ينال قد تزوج هذه الأيام بأخته، وهي التي كانت زوجة تاج الدولة تتش، حتى توسط الأمر معه، فمضوا إليه، وحلفوه على الطاعة، وترك ظلم الرعية، وكف أصحابه، ومنعهم، فحلف، ولم يقف على اليمين، ونكث ودام على الظلم وسوء السيرة.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة، وعرفه ما يفعله ينال من نهب الأموال، وسفك الدماء، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليكف ينال، فسار من حلته في رمضان، ووصل بغداد رابع شوال، وضرب خيامه بالنجمي، واجتمع هو وينال، وإيلغازي، ونواب ديوان الخليفة، وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق، فطلب ينال المهلة، فعاد صدقة عاشر شوال إلى حلته، وترك ولده دبيساً ببغداد ليمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه، فبقي ينال إلى مستهل ذي القعدة، وسار إلى أوانا، فنهب، وقطع الطريق، وعسف الناس، وبالغ في الفعل القبيح، وأقطع القرى لأصحابه، فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة، وإيلغازي، شحنة بغداد، فلما سمع ينال بقربهم منه عبر دجلة، وسار إلى باجسري وشعثها، وقصد شهرابان، فمنعه أهلها، فقاتلهم، فقتل بينهم قتلى، ورحل عنهم، وسار إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد، وعاد دبيس بن صدقة، وإيلغازي، شحنة بغداذ، إلى مواضعهم.

.ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداد والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة:

في هذه السنة، منتصف ربيع الأول، ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد، شحنة، أرسله إليها السلطان بركيارق، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من أصبهان إلى همذان، فلما وصلها أرسل إلى بغداد كمشتكين شحنة، فلما سمع إيلغازي، وهو شحنة ببغداد، للسلطان محمد، أرسل إلى أخيه سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة، واجتمع به، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق، فأجابه إلى ذلك وحلف له، فعاد إيلغازي.
وورد سقمان في عساكر، ونهب في طريقه تكريت، وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت، معهم أحمال جبن، وسمن، وعسل، فباعوا ما معهم، وأظهروا أن سقمان قد عاد عن الانحدار، فاطمأن أهل البلد، ووثب التركمان، تلك الليلة، على الحراس فقتلوهم، وفتحوا الأبواب، وورد إليها سقمان، ودخلها ونهبها، ولما وصل إلى بغداد نزل بالرملة.
وأما كمشتكين فوصل، أول ربيع الأول، إلى قرميسين، وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق، وأعلمهم بقربه منهم، فخرج إليه جماعة منهم، فلقوه بالبندنيجين، وأعلموه الأحوال، وأشاروا عليه بالمعاجلة، فأسرع السير، فوصل إلى بغداد منتصف ربيع الأول، ففارق إيلغازي داره، واجتمع بأخيه سقمان، وأصعدا من الرملة، ونهبا بعض قرى دجيل، فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما، ثم عادوا عنهما، وخطب للسلطان بركيارق ببغداد، فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة، ومعه حاجب من ديوان الخليفة، في طاعة بركيارق، فلم يجب إلى ذلك، وكشف القناع ببغداد في مخالفته، وسار من الحلة إلى جسر صرصر، فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير.
ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إيلغازي وسقمان، وكانا بحربى، يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما، فعادا ونهبا دجيلاً، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة، وأخذت الأموال، وافتضت الأبكار، ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك، إلا أنهم لم ينقل عنهم مثل التركمان من أخذ النساء والفساد معهن، لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق، وبطلت معايش الناس، وغلت الأسعار، فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط، فصار ثلاثة أرطال بقيراط، وجميع الأشياء كذلك.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح، فلم تستقر قاعدة، وعاد إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل، فخيموا بالرملة، فقصدهم جماعة كثيرة من العامة، فقاتلوهم، فقتل من العامة أربعة نفر، وأخذ منهم جماعة، فأطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم، وازداد الأمر شدة على الناس، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه، ويعرفه ما الناس فيه، ويعظم الأمر عليه، فأظهر طاعة الخليفة، إن أخرج القيصري من بغداد، وإلا فليس غير السيف، وأرعد وأبرق.
فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد، ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر، وسار إلى النهروان، وعاد سيف الدولة إلى بلده، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد، وسار القيصري إلى واسط، فخاف الناس منه، وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا، فمنعهم القيصري، وخطب لبركيارق بواسط ونهبوا كثيراً من سوادها.
فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط، فدخلها، وعدل في أهلها، وكف عسكره عن أذاهم، ووصل إليه إيلغازي بواسط، وفارقها القيصري، ونزل متحصناً بدجلة، فقيل لسيف الدولة: إن هناك مخاضة، فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه، وبقي في خواص أصحابه، فطلب الأمان من سيف الدولة، فأمنه، فحضر عنده، فأكرمه، وقال له: قد سمنت، قال: وتركتنا نسمن؟ أخرجتنا من بغداد، ثم من واسط، ونحن لا نعقل.
ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط، ومن كان مع القيصري، سوى رجلين، فعادا إليه فأمنهما، وعاد القيصري إلى بركيارق، وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي، واستناب كل واحد منهما فيها ولده، وعادا عنها في العشرين من جمادى الأولى، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه.
فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة، وأرسل ولده الأصغر منصوراً مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة، فوصل إلى بغداد، وخاطب في ذلك، فأجيب إليه.